mercredi 21 mai 2008

الجسد في الزمن، وفي المدن


نشاط لبناني في التارماك:


أسئلة الزمن والمدينة إذ يعبرهما الجسد
نشرت في ملحق النهار، في تشرين الثاني 2005


شهد مسرح التارماك الباريسي المخصص للفن الفرنكوفوني نشاطاً لبنانياً متميزاً في ختام موسمه الأول بعد إعادة فتحه. ففي معرض استقباله لمسرحية "بيوخرافيا" للينا الصانع و ربيع مروة، والتي سبق عرضها في بيروت، عرض التارماك أيضاً لثلاثة فنانين : "كوارث" لعمر فاخوري، و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي، و "كتب" لهانيبال سروجي. كما خصص، في 30 تشرين الأول الفائت، يوماً لعدد من أفلام الفيديو اللبنانية، فقدم أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري، "السقوط الأخير" لنسرين خضر، "لا شيء يهم" لعلي قيس، "حديث نسوان" لدانييل عربيد، "وا" لزياد عنتر و "جيبرالطار" لغسان حلواني.

ثمة تصادٍ خافت بين ثلاثة على الأقل من هذه الأعمال يحيل المرء على أسئلة شائكة إذ تتقاطع فيها خطوط الزمن و المدينة والأطلال، على التباس جميعها بموضوع الجسد الذي يحيا ويعبر وينتهي إلى الخيبة أو اللامبالاة ما لك يتدخل سحر القص ليجعله حجراً فيهنأ، على ما كان تمنى الشاعر الجاهلي.

يفتتح شري فيلمه بصورٍ تبدو كما لو أنها تحمل في طياتها أطرها، فنجد البيوت عارية الأعمدة مثل أضلاعٍ، تتوسطها بقعات نور متسللة من فرجات لا ندري أهي وليدة الاهتراء والإهمال أم وليدة البطء في إتمام البناء. مبانٍ بين عمرين، لكننا نجهل إن كانت تمضي نحو الفتوة أم نحو الاندثار. أما نصه المستوحى من كتاب ميشيما "الشمس و الفولاذ" فيتأرجح بين حدين، حد الجسد الخائب إزاء الأفكار والعاجز عن مجاراتها والتشكل بحسبها والعاجز حتى أن يكون لائقاً بميتة درامية، وحد الأسى لدى إعلان نهاية الحرب لأن المدينة التي يحيا فيها لن تظل تأكل نفسها (أو هو يحسب ذلك)، لكن المصالحة مع الشمس تتم حين ينتبه إلى كونها تعجل بتحويل كل شيء إلى طلل.

في "جيبرالطار"، أو "جبل طارق"، فيلم فيديو و تحريك، لغسان حلواني والذي يعرض قريباً في بيروت، ليست المدينة (باريس) التي تتحول أطلالاً. باريس سلفاً طَلَلٌ مثلها منذ فجر التصوير. لكن ما يغيب ثم يتصخّر هو الوجه، وكذلك حال صور الفيلم التي تتحلل وتتقشر كالإعلانات عن الحيطان أو كجلدٍ محترق من أثر الشمس، و ذلك قبل أن يصير طارق نفسه هو الجبل الذي يظلل المدينة. في هذا الفيلم المستوحى من مسرحية "زنبق والجبل" أثر هائل للغياب، غياب رؤية المسرحية التي لم تكن، إبان الحرب، معروضة للأطفال بل توافرت فقط على الكاسيت. ليست الحرب أو عنفها ما يترك الأثر هنا، بل الصوت وغياب الرؤية، هكذا تتفتح الصور وتتناسل من بعضها كتتالي الدرجات الموسيقية فنجد عالماً معلقاً في دهاليز كيس تشبه نفق أليس التي تلاحق الأرنب الأبيض إلى عالم العجائب.
الغياب يترك بصمته الحارقة على جلد الصورة نفسها. في هذا ربما يقترب "جبل طارق" من فيلم على شري، إذ لا بعود التحول إلى طلل نوعاً من التصخر (الفردي في الأول و المديني في الثاني) بل عملية متواصلة (المدينة تأكل نفسها، الصور تقشر نفسها). لكن أحداً منهما لا يأخذ الطرح إلى مداه الأبعد متسائلا عن أحشاء هذه المعدة التي تقشر وتأكل. تحديداً يقف شري عند شمس ميشيما و لا يتناول الفولاذ الذي هو ربما، مصهوراً متدافعاً كحمم البراكين في فيديو وليد رعد عن السيارات المفخخة، أحشاء المدينة الفعلية، و محرك الصور (موتورها) في عنف شراهتها و نهمها.

طارق العابر في المدينة ـ الطلل يصير الجبل، أما عمر فاخوري فلا يعبر في الأمكنة بل في الأزمنة، أزمنة العنف الدافق. فاخوري سائح يبعث لنا بطاقاته البريدية و ألبوم صوره، "من بيروت مع الحب"، "من رواندا مع الحب"، "من كوسوفو مع الحب"... الخ. وكما يأخذ السياح للسياح الصور واللقطات أمام الأطلال و الأنصاب، تؤخذ صور فاخوري أمام الكوارث. الكوارث أحداث هي أنصاب الزمن و علاماته في رأي فاخوري، لكنها ربما كانت أطلال الأزمنة.

يلعب عمر فاخوري مع الصورة والجسد السينمائي الجيمس بوندي : "من روسيا مع الحب" للعميل 007 ، "من بيروت مع الحب" يرد فاخوري بثيابه السوداء مديراً ظهره مبتعداً عن انفجار السان جورج واضعاً يديه على خصره كأنما لا رادّ لعزم وتصميم رجل الوكالة البريطانية. "زيليغ" لوودي آلن يتلوّن كالحرباء حتى يصير، رغماً عن نفسه، عضواً في الميليشيا النازية، أما فاخوري فهو "من برلين مع الحب" يرسل لنا تمرد جسده يدخن بتلذذ و طرافة سيجارته أمام هتلر الخطيب في جنوده المتراصين لا يهتز لهم جفن... والأمثلة كثيرة، إلا أن كثرتها تبعث على التساؤل عن تساوي الأحداث و الكوارث في عين فاخوري، و عن غياب التفاوت، وهي متفاوتة، في القدرة على إنشاء أزمنتها الخاصة. إلى أن الكثرة والبحث عن الطرافة والدهشة يجعلان علاقة جسد فاخوري بأزمنة الكوارث علاقة متفاوتة أيضاً. فهو حيناً مشارك أو عامل في الكارثة نفسها، وحيناً مجرد إسقاط عليها من الخارج. على النقيض من عمل لينا الصانع و ربيع مروة الساعي في إخراج الجسد من حلبة العرض و في تقويض سلطة الصورة باللغة الناقدة و الساخرة والمفعمة ثقةً و هزءاً، يبدو أن فاخوري يسعى إلى وضع الجسد، جسده الخاص في قلب صورة الكارثة ولحظتها ربما ليمسح بمرهم الفكاهة ذنوبنا جميعاً فيها. بيد أنه ينسى أن لحظة الكارثة هي زمن ميت، بحسب دولوز على الأقل، و أن الجسد في مثل هذه اللحظة جسد معدٌّ للسحق، رغم كل خدع التصوير.

في حين يهرب البعض إلى الطفولة ("وا" لزياد عنتر) أو إلى الباروديا السياسية ("لا شيء يهم" لعلي قيس) أو إلى الحنين (و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي) أو فقط يراكم البنايات المتكدسة كأكوام النفايات بحيث لا تترك مجالاً للسكان ولا متنفساً (أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري) وحدهما "جبل طارق" لغسان حلواني و "السقوط الأخير" لنسرين خضر يقدمان جسداً في ماديته الهائلة، في ارتباكه ووهن مفاصله وخجله كما تُظهر خضر في فيلمها القصير جداً الذي يلوح كنثر الجسد في وجه جان فيغو و "سباحته" التي يحيلها قصيدة ملحمية في إعلاء الجسد و الإرادة و الماء المتلألئ.

Aucun commentaire: